من أين سيشرب المولود العراقي القادم؟
مع اقتراب عدد السكان من 50 مليوناً، وتحوّل المدن إلى كتلٍ عشوائية عطشى، يواجه العراق خطر العطش الكبير.. مقالٌ يُحلل الصّورة المخيفة لمستقبل المياه، حيث الجفاف أسرع من الولادات، والبنى التحتية أضعف من العطش..
في طريق الإجابة عن سؤال “من أين يشرب العراقيون؟” ولملمة الأفكار عن الكمّيات المتوفرة من المياه، سيتوقف المرء أمام “الزيادة المتواترة” بأعداد مستهلكي هذا المصدر الجوهري للحياة.
من شأن إلقاء نظرةٍ سريعةٍ على المدن العراقية، التي تشهد ارتفاعاً كبيراً في درجات الحرارة، وتكتظُّ بالسّكان الباحثين عن المياه للشرب ولأغراضٍ أخرى، أن تكشف عن تأثير النُّمو السُّكَّاني الكبير في زمن المناخ المتأزم، ويجد السائل نفسه أمام مُدنٍ غير واعية بذاتها وبعوالمها السفلى، حيث التآكل و”التصدع الأيضي” إن جازت العبارة.
سجّلت نتائج الإحصاء السُّكاني الأخير في العراق، الذي أُجري عام 2024، قفزةً كبيرة بالنُّمو السُّكّاني (46 مليوناً و118 ألف نسمة)، 70.17 بالمئة منهم يعيشون في المدن. يضيف هذا النُّمو السكاني المزيدَ من التصدّع والاضطراب إلى حياة المدن العراقية، بما في ذلك البنى التحية. وفي ظلّ هذا المشهد السكاني-المديني المرتبك، فالماء لا يحتلُّ مقدمة الاحتياجات البشرية فحسب، بل يدخل في صلب الاستقرار والسلم الأهلي للمجتمعات.
رغم ذلك، لا يزال التفكير بالماء أسيرَ سرديةٍ أدبيةٍ، تُزيّنها أشجار النخيل وهي تشرب الماء، لكنْ، وفق البيانات المتوفّرة، تتحوّل صورة الماء إلى صورة يسودها التشاؤم! ذلك أنّ عجلة “الازدياد السكاني” ما زالت تدور على طريق الفوضى، حيث تتّسع الأمصار على إيقاع ولاداتٍ جديدة، تقارب مليون مولود كلّ سنة.
بحلول عام 2028، أي بعد ثلاث سنوات من كتابة هذا المقال، سيصل عدد سكّان العراق إلى نحو 49 مليون نسمة، مع وجود “هوّة” كبيرة بين تركيبةٍ سكّانيةٍ فتيةٍ، وواقع مناخي-بيئي تغزو ملامحَه الشيخوخة، فارتفاع درجات الحرارة، وشُحّ المياه، والتصحّر المستمر، وتواتر العواصف الغرابية، وفقدان الغطاء النباتي، كلّها علامات دالة على هذه الشيخوخة المبكّرة.
أمَّا “الخصوبة السكانية الفتية” فيمكن تلخيصها في بياناتٍ حكوميةٍ أعلنها المتحدّث الرسمي لوزارة التخطيط، عبد الزهرة الهنداوي: “العراق يتميز بأنه ذو تركيبة سكانية فتيّة، ترتفع فيها معدلات الخصوبة، وبمعدل نمو متوقع 2,4 بالمئة، وعلى الرغم من الانخفاض التدريجي الملحوظ في تلك المعدلات، والتغيير الديموغرافي الذي بدأت تظهر ملامحه في زيادة متواترة للفئات العمرية في سن العمل، إلّا أنه يبقى من الدول ذات النمو السكاني المرتفع في العالم”. هذا رغم أنّ البلاد متأثرة، أكثر من غيرها، بالأزمة المناخية العالمية.
يشكّل هذا “السَّيلان السكاني” ضغطاً هائلاً على الموارد الطبيعية وسُبل استغلالها، وعلى المياه خصوصاً، ما يضعف قدرة العراق على مواجهة تغيُّر المناخ والآثار الناجمة عنه. فضلاً عن ذلك، تؤدي مضاعفة الاكتظاظ السكاني في المدن إلى تآكل البنى التحتية، فينعكس ذلك سلباً على الخدمات العامة، وتنمو مدنٌ عشوائية على هوامش البنى التحتية والخدمات العامة ذاتها. وبما أنّ هذه البؤر السكّانية الحديثة، على أطراف العاصمة بغداد والمدن الاخرى، تعاني من قلّة الخدمات الأساسية، مثل التعليم، والصحة، والكهرباء، وشبكات الصَّرف، فإنها تعدُّ جميعها من العناصر المغذية لظهور أشكال متعددة من الصراعات الاجتماعية.
تالياً، وبناءً على ما تقدّم، يُعدُّ المشهد المائي في العراق اليوم مشهداً سكانياً ومدينياً بامتياز، ذلك أنَّ الانفجار السكاني غير المنضبط، وتآكل البنى التحتية للمدن المكتظة، وظهور أشكال عشوائية من المجتمعات الهامشية، كل ذلك يفرض سؤالاً بديهياً: “من أين يشرب المولود الجديد بعد 20 عاماً؟” ولو ربطنا السؤال ذاته بمستقبل المياه في عراق الغد، قد نسأل عن المكان الذي يهاجر إليه هذا المولود، ذاك أن الجفاف والتصحّرَ يسبقان الازدياد السكاني في السرعة والتأثير، وبالاتجاه المعاكس، ما يعني زيادةً في النزوح الداخلي –الحاصل في الوقت الحالي- وهجرات خارجية في المستقبل.
تشير البيانات الحديثة إلى أنّ الواردات المائية في العراق لم تشهد في تاريخها النقص الكبير الذي تشهده هذا العام؛ ففي سدّ الموصل وحده وصل النقص إلى ما يقارب ثلاثة أرباع السعة التخزينية البالغة 9.3 مليار متر مكعب، حيث لا يتجاوز مخزونه الحالي 2.5 مليار متر مكعّب. أما بحيرة سدّ دوكان في محافظة السليمانية، التي تمدُّ أجزاءً من محافظتَي كركوك وصلاح الدين بالمياه الصالحة للشرب والزراعة وتربية الماشية، فوصل مخزونُها إلى أدنى مستوياته، حيث انخفض إلى 1.6 مليار متر مكعب، بينما تصل سعتها التخزينية إلى 6 مليار متر مكعب.
ليس هنالك معجزة مناخية تعيد العراق إلى سابق عهده من حيث توافر المياه والموارد الطبيعية الأخرى ذات العلاقة، ذلك أنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث يقع العراق، متأثرة بتغير المناخ الناجم عن النشاط البشري أكثر من غيرها. وتعود أسباب ذلك إلى الطبيعة الجيو-مناخية للمنطقة، وندرة مصادرها الطبيعية المتجددة، من شأن هذا التأثر الشديد بتغيرات المناخ أن يخفض المواسم المطرية في هذه النقطة الملتهبة، ويترك آثاراً كبيرةً على الموارد المائية، التي تعتمد على الأمطار الشتوية لتزويدها خلال فصل الصيف الحار والجاف.
قد تتراجع الأمطار الشتوية في منطقة البحر الأبيض المتوسط بما يقارب 40 في المئة، الأمر الذي يقوّض قدرة المنطقة على التطوير والزِّراعة، ويؤثر على حياة ملايين الأشخاص الذين يعانون من الإجهاد المائي، ناهيك عن التهديد الذي ينتظر المنطقة، ويزيد من التوترات الموجودة فيها، وخصوصاً في شرق البحر الأبيض المتوسط. ورغم أن أجزاءً واسعةً من العراق لا تُعد متوسطية، إلَّا أن إقليم كردستان، الذي يمرّ عبره نهر دجلة وفروع أخرى، يُعدّ متوسطياً.
مائياً، تحيط بالعراق نقاط ضعف كثيرة، بدءاً من موقعه الجغرافي بوصفه بلداً مصبّاً، مروراً بسياساتٍ مائية غير عادلة، تمارسها جارتاه من الشمال والشرق (تركيا وإيران)، والإدارة الفقيرة لهذا المورد الثمين، وتقادم بنيته التحتية، وصولاً إلى الاكتظاظ السكاني، الذي لا بد من أخذه بعين الاعتبار، وكلُّ تلك النقاط يمكن العمل على معالجتها على نحو أفضل.
إنّ الإدارة الكفوءة للمصادر المائية ضرورة فورية للحيلولة دون وقوع البلد في عطشٍ “عظيم”، فلا متّسع من الوقت للاستمرار في النمط السائد بإدارة الموارد المائية، القائم على التخزين والتوزيع، ذلك أنها غير كفوءة، ولا ترقى إلى مستوى مواجهة التحديات التي تفرضها الكتلة السكانية والطلب المتزايد على المياه. فبالإضافة إلى أهمية اعتماد إدارة جزئية لهذا المصدر الجوهري، تحتلّ مسألتَي التكاثر السكاني والإدارة المستدامة للمدن وبناها التحتية صدارةَ السياسات الحكومية العامة لتجنب الوقوع الى المنحدر.
ومن أجل المضيّ في طريق البحث عن حلّ مستدام، لا بد من الاعتراف بوقوف العراق على مفترق طرق مائية-ديمغرافية، وعدم فصل النمو السكاني عن مسألة المياه، وليس هنالك سبيل غير النظر في المُدُن المتّشحة بالصفار، والاستسلام لحقيقة أنها تتعرّض لغزو صحراوي، وليس الحل لشيء غير تأمين سُقيا المولود القادم.

